الولايات المتحدة واليونسكو- ثلاث طلقات أمريكية.. هل من رجعة؟
المؤلف: زياد بن عبدالله الدريس08.25.2025

في الماضي، وتحديدًا منذ عامين، خطّت يراعتي مقالًا في هذه الجريدة تحت عنوان: "لماذا عادت الولايات المتحدة إلى اليونسكو؟". وخلاصة ذلك المقال تتلخص فيما يلي:
منذ تأسيس منظمة اليونسكو عام 1946، ارتبطت الولايات المتحدة بعلاقة وثيقة معها، حيث كانت أمريكا من الدول المؤسسة، جنبًا إلى جنب مع المملكة العربية السعودية وعدد قليل من الدول الأخرى.
في عام 1984، اتخذت الولايات المتحدة قرارًا بالانسحاب من اليونسكو، معللة ذلك باحتجاجها على ما وصفته بانحياز المنظمة للأيديولوجيا الشيوعية، في ذروة الحرب الباردة.
ثم عادت وانضمت مرة أخرى إلى اليونسكو في عام 2003.
ولم يستمر الحال طويلًا، ففي عام 2017، انسحبت الولايات المتحدة من اليونسكو مرة أخرى، مبررة ذلك بما اعتبرته انحيازًا من المنظمة ضد إسرائيل، وذلك بعد التصويت على القرار الذي ذاع صيته عام 2011 بجعل فلسطين دولة كاملة العضوية في المنظمة.
وفي 25 يوليو 2023، عادت الولايات المتحدة لتنضم إلى اليونسكو.
واختتمت تلك المقالة بسؤال أطرحه:
"متى ستكون الطلقة الثالثة بين الشريكين؟!"
لم يخطر ببالي أن الإجابة على سؤالي ستأتي بهذه السرعة الخاطفة، ففي 22 يوليو 2025، أعلنت الإدارة الأمريكية عن قرار انسحاب الولايات المتحدة من عضوية منظمة اليونسكو، حتى قبل أن تنهي عامين من عودتها الأخيرة.
إذًا، بهذا القرار الجديد، تكون أمريكا قد طلقت اليونسكو ثلاث طلقات، فهل سيكون هذا الانفصال نهائيًا لا رجعة فيه؟!
*
ما الدوافع وراء هذه الطلقات الثلاث؟
في كل مرة، تعلن الولايات المتحدة عن سبب أو أسباب لخروجها من المنظمة الدولية، فتارة تتحدث عن التحيز ضد المصالح الأمريكية، وتارة أخرى عن التخبط الإداري، والفساد المالي، والانحياز ضد إسرائيل، أو حتى الانحياز مع الصين.
لكن في الحقيقة، السبب الجوهري وراء هذا الانسحاب المتكرر ليس أيًا من هذه الأسباب المعلنة. فمجرد اتهام أي منظمة دولية بالانحياز لقضية أو جانب معين، هو تحريف لحقيقة جلية وواضحة، وهي أن الدول الأعضاء في المنظمة، أي منظمة، هم الذين يشكلون مواقفها من خلال تقديم مشاريع القرارات، ثم مناقشتها علنًا، ثم التصويت عليها واعتمادها. إذن، الانحياز المزعوم ليس إلا انحياز الأغلبية ضد الأقلية عند التصويت، وهذا هو صلب المبادئ الديمقراطية التي يروج لها الغرب في جميع أنحاء العالم.
السبب الحقيقي وراء الانسحاب الأمريكي المتكرر من اليونسكو هو أنها منظمة تفتقر إلى حق النقض (الفيتو)، الذي يمنح دولة عظمى الحرية المطلقة في الاعتراض على قرار صوتت عليه جميع دول العالم، أو تكتلات العالم، كما يحدث في مجلس الأمن في الكثير من الأحيان!
بعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة "الديمقراطية" لا ترغب في أن تكون المنظمات الدولية ديمقراطية تتعامل مع الدول الأعضاء على قدم المساواة.
باختصار، تمارس الولايات المتحدة ديمقراطيتها داخل حدودها، ولشعبها فقط. أما خارج الأراضي الأمريكية، فإنها تمارس سياسة الرأي الواحد المطلق.
*
يلتمس البعض العذر للموقف الأمريكي من المنظمات الدولية، وتحديدًا اليونسكو هنا، مبررين ذلك بأنها تدفع الحصة الأكبر من ميزانية المنظمة (22%)، وكأنه يحق لها بناءً على ذلك أن تهيمن على مواقف المنظمة وقراراتها.
لكن الحقيقة أن هذا العذر غير مقبول على الإطلاق؛ فالمبلغ الذي تدفعه الولايات المتحدة ليس تبرعًا طوعيًا تتفضل به على المنظمة، بل هو جزء من المساهمة الإلزامية التي يجب على الدول الأعضاء في أي منظمة دفعها دون منة. ويتم تحديد قيمة المساهمة لكل دولة بناءً على معادلة رياضية موحدة تأخذ في الاعتبار الناتج المحلي للدولة، ودخل الفرد، وحجم التجارة الخارجية، وعوامل أخرى متفاوتة. وتستند هذه المعادلة بشكل أساسي إلى مقياس الأنصبة المقررة في الأمم المتحدة، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة.
جدير بالذكر أن إدارة اليونسكو قد تنبهت أثناء الانسحاب السابق إلى هذا الخطر المتمثل في انخفاض الميزانية، فابتكرت مصادر تمويلية بديلة لميزانية المنظمة، مكنتها من تخفيض نسبة الولايات المتحدة في المساهمة الإلزامية من 22% إلى 8% فقط، مما يعني تقليل خسارة اليونسكو من الانسحاب الأمريكي، في حين أن المتغيرات في الساحة العالمية تزيد من خسارة الولايات المتحدة، انسحابًا بعد آخر!
*
في يوم الأربعاء الموافق 12 أكتوبر 2011 (عشية التصويت الناجح على جعل فلسطين دولة عضو في اليونسكو)، زارني في مكتبي بالمنظمة السيد ديفيد كيليون، سفير الولايات المتحدة لدى اليونسكو، وقد جاء ليطلب مني التدخل لدى الوفد الفلسطيني بطلب سحب مشروع قرار الاعتراف قبل التصويت عليه (خلال 15 يومًا فقط)، وعندما لم يجد تجاوبًا مني قال:
"إذا تم اعتماد القرار فعليًا، فسوف تعلن الولايات المتحدة انسحابها من المنظمة أو تجميد مساهمتها المالية فيها، ونحن لا نرغب في أن نضطر لذلك!".
فأجبته: "سوف يزعجنا ويؤذي المنظمة انسحاب دولة مؤثرة كالولايات المتحدة أو تجميد مساهمتها. لكن سيكون مؤذيًا للمنظمة أيضًا أن تبقى قراراتها رهينة مزاج الدول ذات الحصص الكبرى في ميزانيتها. المساواة بين تأثير الدول الأعضاء في قرارات الوكالات الدولية هو ما يميزها عن مجلس الأمن الذي يتحكم به فيتو الدول الكبرى". (لقد وضعت تفاصيل اللقاء الثنائي كاملاً في كتابي: النضال الدبلوماسي 2018).
أصبح الانسحاب الأمريكي من المنظمة مضرًا ماليًا، إلى حد ما.. ونافعًا أخلاقيًا، إلى حد كبير.
منذ تأسيس منظمة اليونسكو عام 1946، ارتبطت الولايات المتحدة بعلاقة وثيقة معها، حيث كانت أمريكا من الدول المؤسسة، جنبًا إلى جنب مع المملكة العربية السعودية وعدد قليل من الدول الأخرى.
في عام 1984، اتخذت الولايات المتحدة قرارًا بالانسحاب من اليونسكو، معللة ذلك باحتجاجها على ما وصفته بانحياز المنظمة للأيديولوجيا الشيوعية، في ذروة الحرب الباردة.
ثم عادت وانضمت مرة أخرى إلى اليونسكو في عام 2003.
ولم يستمر الحال طويلًا، ففي عام 2017، انسحبت الولايات المتحدة من اليونسكو مرة أخرى، مبررة ذلك بما اعتبرته انحيازًا من المنظمة ضد إسرائيل، وذلك بعد التصويت على القرار الذي ذاع صيته عام 2011 بجعل فلسطين دولة كاملة العضوية في المنظمة.
وفي 25 يوليو 2023، عادت الولايات المتحدة لتنضم إلى اليونسكو.
واختتمت تلك المقالة بسؤال أطرحه:
"متى ستكون الطلقة الثالثة بين الشريكين؟!"
لم يخطر ببالي أن الإجابة على سؤالي ستأتي بهذه السرعة الخاطفة، ففي 22 يوليو 2025، أعلنت الإدارة الأمريكية عن قرار انسحاب الولايات المتحدة من عضوية منظمة اليونسكو، حتى قبل أن تنهي عامين من عودتها الأخيرة.
إذًا، بهذا القرار الجديد، تكون أمريكا قد طلقت اليونسكو ثلاث طلقات، فهل سيكون هذا الانفصال نهائيًا لا رجعة فيه؟!
*
ما الدوافع وراء هذه الطلقات الثلاث؟
في كل مرة، تعلن الولايات المتحدة عن سبب أو أسباب لخروجها من المنظمة الدولية، فتارة تتحدث عن التحيز ضد المصالح الأمريكية، وتارة أخرى عن التخبط الإداري، والفساد المالي، والانحياز ضد إسرائيل، أو حتى الانحياز مع الصين.
لكن في الحقيقة، السبب الجوهري وراء هذا الانسحاب المتكرر ليس أيًا من هذه الأسباب المعلنة. فمجرد اتهام أي منظمة دولية بالانحياز لقضية أو جانب معين، هو تحريف لحقيقة جلية وواضحة، وهي أن الدول الأعضاء في المنظمة، أي منظمة، هم الذين يشكلون مواقفها من خلال تقديم مشاريع القرارات، ثم مناقشتها علنًا، ثم التصويت عليها واعتمادها. إذن، الانحياز المزعوم ليس إلا انحياز الأغلبية ضد الأقلية عند التصويت، وهذا هو صلب المبادئ الديمقراطية التي يروج لها الغرب في جميع أنحاء العالم.
السبب الحقيقي وراء الانسحاب الأمريكي المتكرر من اليونسكو هو أنها منظمة تفتقر إلى حق النقض (الفيتو)، الذي يمنح دولة عظمى الحرية المطلقة في الاعتراض على قرار صوتت عليه جميع دول العالم، أو تكتلات العالم، كما يحدث في مجلس الأمن في الكثير من الأحيان!
بعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة "الديمقراطية" لا ترغب في أن تكون المنظمات الدولية ديمقراطية تتعامل مع الدول الأعضاء على قدم المساواة.
باختصار، تمارس الولايات المتحدة ديمقراطيتها داخل حدودها، ولشعبها فقط. أما خارج الأراضي الأمريكية، فإنها تمارس سياسة الرأي الواحد المطلق.
*
يلتمس البعض العذر للموقف الأمريكي من المنظمات الدولية، وتحديدًا اليونسكو هنا، مبررين ذلك بأنها تدفع الحصة الأكبر من ميزانية المنظمة (22%)، وكأنه يحق لها بناءً على ذلك أن تهيمن على مواقف المنظمة وقراراتها.
لكن الحقيقة أن هذا العذر غير مقبول على الإطلاق؛ فالمبلغ الذي تدفعه الولايات المتحدة ليس تبرعًا طوعيًا تتفضل به على المنظمة، بل هو جزء من المساهمة الإلزامية التي يجب على الدول الأعضاء في أي منظمة دفعها دون منة. ويتم تحديد قيمة المساهمة لكل دولة بناءً على معادلة رياضية موحدة تأخذ في الاعتبار الناتج المحلي للدولة، ودخل الفرد، وحجم التجارة الخارجية، وعوامل أخرى متفاوتة. وتستند هذه المعادلة بشكل أساسي إلى مقياس الأنصبة المقررة في الأمم المتحدة، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة.
جدير بالذكر أن إدارة اليونسكو قد تنبهت أثناء الانسحاب السابق إلى هذا الخطر المتمثل في انخفاض الميزانية، فابتكرت مصادر تمويلية بديلة لميزانية المنظمة، مكنتها من تخفيض نسبة الولايات المتحدة في المساهمة الإلزامية من 22% إلى 8% فقط، مما يعني تقليل خسارة اليونسكو من الانسحاب الأمريكي، في حين أن المتغيرات في الساحة العالمية تزيد من خسارة الولايات المتحدة، انسحابًا بعد آخر!
*
في يوم الأربعاء الموافق 12 أكتوبر 2011 (عشية التصويت الناجح على جعل فلسطين دولة عضو في اليونسكو)، زارني في مكتبي بالمنظمة السيد ديفيد كيليون، سفير الولايات المتحدة لدى اليونسكو، وقد جاء ليطلب مني التدخل لدى الوفد الفلسطيني بطلب سحب مشروع قرار الاعتراف قبل التصويت عليه (خلال 15 يومًا فقط)، وعندما لم يجد تجاوبًا مني قال:
"إذا تم اعتماد القرار فعليًا، فسوف تعلن الولايات المتحدة انسحابها من المنظمة أو تجميد مساهمتها المالية فيها، ونحن لا نرغب في أن نضطر لذلك!".
فأجبته: "سوف يزعجنا ويؤذي المنظمة انسحاب دولة مؤثرة كالولايات المتحدة أو تجميد مساهمتها. لكن سيكون مؤذيًا للمنظمة أيضًا أن تبقى قراراتها رهينة مزاج الدول ذات الحصص الكبرى في ميزانيتها. المساواة بين تأثير الدول الأعضاء في قرارات الوكالات الدولية هو ما يميزها عن مجلس الأمن الذي يتحكم به فيتو الدول الكبرى". (لقد وضعت تفاصيل اللقاء الثنائي كاملاً في كتابي: النضال الدبلوماسي 2018).
أصبح الانسحاب الأمريكي من المنظمة مضرًا ماليًا، إلى حد ما.. ونافعًا أخلاقيًا، إلى حد كبير.